كان المعبد الرابع عرش بلقيس يرتفع في مجمله 15 متراً ويتألف من مساحة المعبد وبيت للصلاة في الوسط وأروقة بأعمدتها في الجهات الشمالية والغربية والجنوبية وأمام الواجهة الغربية للمنصة شيدت البوابة الخارجية لتشكل معلماً بارزاً بأعمدتها الستة التي نحتت من كتل صخرية يبلغ ارتفاع الواحد 8.2 متر، بالإضافة إلي الدرج والتي تؤدي إلي الداخل وفي الوقت نفسه تم إضافة ساحة أمامية وحفرت البئر. وللساحة الداخلية شكل مربع وأروقة بأعمدة ارتفاع كل منها 4 أمتار وكانت الأروقة مزينة بنحت علي حجر البلق والمقاعد التي قدت من محاجر المخدرة في صرواح علي بعد حوالي 40كم إلي الشمال الغربي.
ويبدو مجمع المعبد عرش بلقيس وحدة معمارية متناسقة يتقابل فيها المدخل الرئيس والساحة مع الدرج العالي لمنصة المعبد بشكل يوحي بالروعة والجمال وعظمة المنجز والإنشاء.
تشير النقوش التي تم العثور عليها أن النذور المقدمة للمعبد متعددة كأن تكون قطعاً من الأرض أو البساتين وغيرها، وغير ذلك مما يعكس نفوذ المعبد في حياة السبئيين وأهميته في الحياة الاقتصادية، وكان الدخول إلي المعبد في فترة البناء الرابع قسراً علي أولي المراتب العليا من أهل البلاد السبائية ونفرد من الطبقة العليا في المجتمع السبئي ومن هؤلاء من أسهم بسخاء في تجهيز أروقة الساحة الأمامية للعرش فمثلاً القين وهو إداري ذكرت النقوش أنه عمل مع حكام سبأ مثل تدع آيل و يثع أمر و كرب ايل أما العامة فلا يسمح لهم كما يبدو بدخول حرم المعبد وكانوا يضعون قرابينهم المصنوعة من الفخار علي امتداد واجهة الساحة الأمامية.
السدود مفتاح الحضارة
كانت السدود العظيمة التي شيدها السبئيون والمعابد أهم علامة بلوغ حضارتهم واوجها وذلك في القرن العاشر قبل الميلاد عندما زارت بلقيس ملكة سبأ الملك سليمان وكانت مملكة سبأ التي عاصمتها مأرب مرياباً غنية جداً لمهارة أهلها في التجارة وسيطرتهم حينذاك علي الأسواق كما ورد في التورات أن بلقيس قدمت إلي سليمان الذهب والحجارة الكريمة والطيوب بكميات كبيرة، وأشار القرآن الكريم إلي ذلك وإلي ثراء الملكة بلقيس ورخاء السبئيين عامة، وذلك في حوار بين سليمان والهدهد، قال تعالي (وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم).
كانت مملكة سبأ تسيطر علي طرق القوافل التجارية بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها وصولاً إلي مصر وغزة وبلاد ما بين النهرين ، وكان السبئيون يصدرون إنتاجهم الخاص من البخور والطيوب والعطور والتوابل في هذه الاتجاهات وكانوا يلعبون دور الوسيط مع الهند بفضل مرافئهم علي المحيط الهندي وكانت ديانة سبأ قريبة جداً من الديانة البابلية بمجوسها وبعبادة الكواكب وأما الالهان الرئيسان فكانا الإله القمر، والإله الشمس التي يتجه نحوها السبئيون ليصلوا عند الفجر، والسبئيون مزارعون ماهرون وبناة قلاع وقصور ذات هندسة معمارية متميزة، ومؤلفات فنية.
وأبدع السبئيون حضارة خاصة بهم تحميهم من الغزاة علي الجبال الشاهقة والصحاري الشاسعة، والمساحات البحرية الواسعة وعرفوا بالازدهار إلي درجة أن اليونانيين ومن ثم الرومان أطلقوا علي بلادهم اليمن اسم العربية السعيدة .
أغنت التجارة السبئيين إلي درجة أنهم أصبحوا الشعب الأوفر ازدهاراً في بلاد العرب كانوا يستخدمون القرفة والتوابل الأخري كمحروقات ، ويسكنون بيوتاً رائعة رصعت أبوابها وجدرانها وسقوفها بالعاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة، وكان هذا الازدهار مصدر خطر علي الاستقرار إذ شن ايلوس غالوس بتكليف من آب (أغسطس) حاكم مصر أول غزو ضد مملكة سبأ وذلك عام 25 قبل الميلاد لكن السبئيين نجحوا في صد الغزو حيث لم يرجع مع غالوس من بين عشرة آلاف مقاتل سوي عدد بسيط من الناجين ومع مرور السنين والمتغيرات تحرك الحميريون أتباع سبأ ومدوا سيطرتهم علي مناطق سبأ وأعلن زعيمهم نفسه ملكاً لسبأ وذو ريدان، وامتد نفوذ مملكة سبأ و ذوو ريدان حتي الضفاف الشرقية للقارة الأفريقية المطلة علي البحر الأحمر.
وقادت المتغيرات السياسية والعسكرية والعقيدية عبر القرون إلي انعكاسات مباشرة علي المعالم الحضارية لمملكة سبأ وفي مقدمتها المعابد التي كان لها نفوذها وسلطتها في مرحلة الوثنية وعبادة الكواكب وفي حوالي بداية العصر المسيحي تعرض معبد عرش بلقيس وربما غيره من المعابد التي لم تكشف بعد إلي الإهمال وأعرض الناس عن التنسك فيها بالقدر الذي كان عليه.
ويشير علماء الآثار إلي احتمال تعرض المعبد للهجرة والانقطاع والنهب والتدمير وهدمت أسواره وحطمت محتوياته ومقاعده وسويت مقدساته علي المنصة بالأرض ولم يعرف حدوث أي حملة عسكرية خلال تلك الفترة ذات علاقة بمأرب عدا الحملة الرومانية الشهيرة غاليوس ما بين عامي 25 ــ 26 قبل الميلاد وهي الحملة التي أخفقت في فتح مأرب ويعتقد أن القائد الروماني انتقم لذلك بتخريب المنشآت المائية الرئيسة في مأرب مثل السد ويميل علماء الآثار إلي أن الرومان خربوا أيضاً معبد برآن عرش بلقيس وقد جرت بعد ذلك إصلاحات غير مكتملة للمعبد غير أن الطقوس التقليدية توقفت في بداية العصر المسيحي وهجرت المعابد الوثنية وربما يتوافق هذا الوضع مع حالة الدمار التي تعرض لها المعبد وكان آخر ما شيد في موقع المعبد قناة ري كبيرة وذلك جنوب حرم المعبد مباشرة وكان ذلك في القرن الخامس أو السادس الميلادي ويبدو أن هذه القناة قد توقفت عن العمل في فترة ما قد لا تسبق انهيار سد مأرب العظيم وهو الانهيار الأخير الذي حصل في ما بين عامي 570 ــ 600 للميلاد أما في القرن السابع للميلاد فقد هجر الموقع تماماً وبدأت تطمره الرمال.
كان عرش بلقيس أو معبد برآن قد فقد قيمته كمكان ديني بحلول القرن الرابع للميلاد، وهذا يوافق الدلائل النقشية التي تم العثور عليها في أنحاء شتي من اليمن والتي تشير إلي أن حكام بلاد اليمن حوالي 380 للميلاد لم يعودوا يحبذون الوثنية ، وإنما اتجهوا إلي ديانات التوحيد كالمسيحية واليهودية.
لا شك أن الكشف المتكامل لعرش بلقيس في وادي مأرب قد شد الانتباه إلي مهد الحضارة السبئية وحفز السلطات والمهتمين بالآثار والحضارات القديمة للدخول في مشروعات حفر وتنقيب واسعة عن آثار الحضارات اليمنية القديمة في جنوب الجزيرة العربية، وهنا يؤكد يوسف محمد عبد الله علي وجود نحو عشر بعثات أثرية غربية أمريكية، فرنسية، ألمانية، إيطالية، كندية، واسترالية وغيرها تقوم بأعمال حفر وتنقيب عن الآثار في مأرب و شبوه وحضرموت ولحج وأب وزبيد، وغيرها من مراكز وعواصم الحضارات اليمنية القديمة، وأعلن الخبير الأثري اليمني ورئيس الهيئة العامة للآثار والمخطوطات الدكتور يوسف عبد الله (إن عدداً من الفرق وخبراء الآثار ستصل إلي اليمن خلال الأسابيع المقبلة للبدء بعملية الحفر والتنقيب خلال الموسم الجديد، ومن بين هذه البعثات بعثة أثرية تابعة للمؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان تتكون من آثاريين أمريكيين، وكنديين، وبولنديين، وروسيين، وفلسطينيين وذلك لاستئناف عملية الحفر والتنقيب عن معبد آوام أو محرم بلقيس الذي يقع علي بعد نحو 3 كم إلي الشرق من عرش بلقيس، وهو المعبد الذي وصفه البروفيسور الكندي بيل جلانزمان بأنه قد يصبح أعجوبة الدنيا الثامنة).
وقال جلانزمان أستاذ الآثار بجامعة كالجاري الكندية والمدير التنفيذي لمشروع الحفر والتنقيب لمحرم بلقيس معبد آوام يعتبر محرم بلقيس أكبر معبد تاريخي قديم في الجزيرة العربية ظل متنسكاً للسبئيين منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد وحتي القرن الرابع الميلادي وأضاف (نعتقد أن الاكتشاف ينطوي علي احتمالات سياحية عالمية، وقد يعادل في الأهمية أهرام الجيزة في مصر وأطلال بومبي في إيطاليا، والاكروبوليس في اليونان، فالموقع متخم بالقطع والنقوش والمنحوتات والرسوم الأثرية مما قد يفتح باباً جديداً إلي الحضارة السبئية والحضارة القديمة عامة في جنوب شبه الجزيرة العربية).
كان الباحث الأثري الأمريكي ويندل فيليبس قد بدأ لأول مرة عملية الحفر في محرم بلقيس عام 51 و1952م إلا إن أعمال الحفر تلك توقفت حتي عام 1977م حين توصلت الحكومة اليمنية إلي توقيع اتفاق مع المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان للتنقيب عن المعلم المذكور وقد نفذت المؤسسة جولتين من أعمال الحفر والتنقيب الاختبارية في عدة جهات من المعبد الذي يبدو ضخماً يحتل مساحة كبيرة بشكل ربوة تتوسط الوادي ويتميز ببروز ثمانية أعمدة صخرية متناسقة عند المدخل الشرقي له تحيط بها كثبان الرمال ويتميز هذا المعبد بوجود مقابر ضخمة من عدة طوابق ملحقة به من الجهة الجنوبية والغربية، كما تبدو النقوش الأثرية علي حجارته في السور الرئيس بارزة سواء المدونات بالخط المسماري أو الرسوم المنحوتة لأشخاص من العهد السبئي.
ومحرم بلقيس معبد القمر يزيد عمره عن ثلاثة آلاف سنة وهو معلم أثري مذهل يحيط بالكثير من أسرار عظمة مملكة سبأ وهو جزء مهم من التراث الإنساني العالمي ويعتقد فريق التنقيب والحفر الآثاري إن هذا المعبد قد وجد خلال الفترة 1200 قبل الميلاد حتي عام 550 للميلاد، وتري مرلين فلييس رئيسة الفريق الأثري (أن محرم بلقيس اكتشاف مذهل لم يره الناس منذ آلاف السنين).
وقال صادق الصلوي مدير عام الآثار في مأرب (إن هذا المعبد كان الناس يحجون إليه من أرجاء الجزيرة العربية مرة في السنة وفي موسم محدد وأيام معدودة وهو أكبر معبد تم الكشف عنه حتي الآن ولا يزال أكثر من نصفه تحت الأرض) وأكد رئيس الوزراء اليمني الدكتور عبد الكريم الإرياني خلال الاحتفال بذكري الألفية الثالثة لعرش بلقيس إن عملية الحفر والتنقيب عن محرم بلقيس معبد القمر ستبدأ قريباً وقال (إنها عملية طويلة وتحتاج لوقت طويل) في حين توقعت المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان أن تستغرق عملية الحفر والتنقيب عن محرم بلقيس عشر سنوات وبتكلفة تقديرية تصل إلي 12 مليون دولار باستثناء إقامة المتحف السبئي للآثار والقطع الأثرية التي سيتم العثور عليها.
أما رئيس المعهد الألماني للآثار ببرلين بيرسلي هيلموث فقد أكد عند افتتاح عرش بلقيس إن الفريق الأثري التابع للمعهد والذي أنهي أعمال الترميم لعرش بلقيس سينتقل في غضون أيام قلائل للبدء بأعمال الحفر والتنقيب عن معبد القمر محرم بلقيس بالتعاون مع المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان، وقال ان الآثاريين الألمان ستقتصر مهمتهم علي أعمال الحفر والتنقيب في المحيط الخارجي للمحرم بينما ستتركز أعمال الحفر والتنقيب للمؤسسة الأمريكية علي داخل المحرم، وأضاف بأن الألمان توصلوا إلي اتفاق مع الحكومة اليمنية علي القيام بتنفيذ أكبر مشروع تنقيب وحفر عن الآثار السبئية وذلك في مدينة مأرب القديمة التي كانت مركز العاصمة السبئية قبل آلاف السنين، وتبدو اليوم مجرد أطلال من منازل طينية متهدمة يعود عمرها إلي نحو مائتي سنة لكنها ربما تخفي تحتها وعلي أعماق مختلفة في باطن الأرض كنوزاً ضخمة من معالم وآثار مملكة سبأ التي تحيطها الكثير من الأساطير حتي الآن ويري الأثريون الألمان في اليمن (بأن المؤشرات لديهم مشجعة، بل مغرية لاحتكار مشروع الحفر والتنقيب في المدينة القديمة حيث يوجد معبد سليمان علي جانب من المدينة وبعض أعمدته المختلفة الأشكال والنحت، متناثرة وبعضها تُري بالعين المجردة مصلوبة علي قارعة الطريق تقاوم قهر الزمن وإهمال السلطات وعبث العابثين).
في مدينة مأرب القديمة قدر ما يهفو الزائر للتنبؤ بكنوز الحضارة السبئية القديمة محاولاً الافتخار بها، بقدر ما يدمي قلبه من مشاهد العبث الذي تتعرض له الآثار التي لم تحمها الطبيعة بابتلاعها داخل بطن الأرض، وتركتها علي ظهرها في متناول العابثين نتيجة الجهل المفرط والإهمال الذي يستحق أصحابه العقاب، لأن أهل مأرب بل حتي أهل اليمن لو كانوا لا يقدرون القيمة الحضارية والتاريخية لهذه الآثار فهي جزء من الحضارة والتراث الإنساني الذي يجب الحفاظ عليه وحمايته