تشبيه الآلهة المصرية بالآلهة الإغريقية

وإذا كان بعضهم يرى أننا لا نجد في الوثائق المعابد، والآلهة الإغريقية بكثرة وافية، فلعل ذلك يرجع إلى حقيقة هامة تتلخص في أن الإغريق منذ عهد هرودتوس درجوا على تشبيه الآلهة المصرية بالآلهة الإغريقية حتى أصبح من العسير ، في ضوء معلوماتنا الحالية ، أن نجزم في حالات كثيرة هل المقصود إله إغريق ومعبد، إغريقي ، أم إله مصري ومعبد مصري .
لكن إذا ورد ذكر إله إغريقي في إحدى المدن الإغريقية، فإنه يمكننا بوجه عام اعتبار ذلك الإله إغريقيًا. غير أنه حتى في هذه الحالة يجب أن نكون حذرين في حكمنا، فقد ورد مثلاً في الوثائق ذكر معبد للإله هفايستوس في الإسكندرية، ومع ذلك فإنه يوجد من القرائن ما يثبت أنه كان معبدًا مصريًا للإله فتاح. أما خارج المدن الإغريقية، فإننا نستخصل من أمثلة عديدة أن ورود اسم إله إغريقي لا يستتبع دائمًا أن الإله المقصود إغريقي، فمثلاً وجد نقش إغريقي على تمثال إلهة نصه "تمثال أثبتنا من سايس"، على حين أن التمثال يمثل الإلهة المصرية نايث. ومما يجدر ملاحظته يد إناء برونزي، من أوائل العصر الهلينيسي، فهي تربنا إلهة متشحة بملابس إغريقية ولها رأس حيوان، لكنه يمكن تغطية وجهها بقناع إغريقي يسهل تحريكه، فلا يمكن رؤية رأس الحيوان إلا بنزع القناع. ونجد كذلك أن فتاح إله منف قد ذكر في قرار حجر رشيد أحيانًا باسمه المصري، وأحيانًا أخرى بام هفايستوس. ويجب أن ندرك أن المقصود بالآلهة الإغريقية زبوس وهليوس وهرميس التي ورد ذكرها في هذا القرار مرادفاتها المصرية، فقد وردت في النصين الديمونيقي والهيروغليفي لهذا القرار الأسماء المصرية لهذه الآلهة. وقد وصف كهنة في وثائق بردية مختلفة بأنهم كهنة وثائق بردية مختلفة بأنهم كهنة آلهة إغريقية، مثل زيوس وهفايستوس وهرميس وأفرودبتي، على حين أن أسماء الكهنة ومراتبهم الكهنوتية لا تدع شكاً في أنهم كانوا كهنة مصريين لآلهة مصرية.

وعلى كل حال لا ريب في أن تشبيه الآلهة الإغريقية بالآلهة المصرية لم يكن إلا تشبيهًا سطحيًا لم ينفذ إلى أعماق عواطف الإغريق الدينية بحيث تحتل الآلهة المصرية مكان الآلهة الإغريقية عندهم، وآية ذلك أن الإسكندر الأكبر والبطالمة شيدوا معابد مختلفة لكل من آلهة الإغريقي وآلهة المصريين.

وفي نص إغريقي من العصر الوماني، وصف أبولو بأنه قرين إله مصري في معبده (Symaos Theos)، وفي نص آخر قرن أبولو مع الإله المصري التمساح سوخوس، وفي نصوص أخرى ذكرت أفرودبتي معالألهة التمساح سوخوس.

ويرى أوتو أنه لما كنا لم نجد بعد دليلاً على امتزاج الديانتين الإغريقية والمصرية، فإنه لا يجوز الاستنتاج أنه كان يعبد في معبد واحد إلهان أحدهما مصري والآخر إغريقي، وأن المقصود بأبولو في هذين النصين هو الإله المصري حارويريس وكذلك المقصود بأفرودبتي في هذه النصوص هو الإلهة المصرية حتحور. ولكن ليس معنى ذلك أنه كلما ذكر سويًا إله مصري وإله إغريقي، يتعين أن نجد دائمًا وراء اسم الأخير إلهاً مصريًا. فمثلاً عندما ذكر سويًا في نص جنازي اسم الإلهين أوزيريس وهرميس، يبدو جليًا أن الشخص المتوفي أراد أن يضمن معونة إله العالم السنفلي عند المصريين ودليل الموتى عند الإغريق.

ضياع المعابد الإغريقية :

وقد عرفنا أن المعابد المصرية كانت تملك ضياعًا واسعة، ولابد من أنه كانت للمعابد الإغريقية أيضاً ضياع، لأن الملك كان صاحب أرض مصر جميعًا، وإذا كان قد منح المعابد المصرية ضياعًا، فلابد من أن منحه قد شملت المعابد الإغريقية أيضاً. لكن ليس معنى ذلك أن ممتلكات المعابد الإغريقية بلغت من الاتساع ما بلغته ممتلكات المعابد المصرية، فقد كانت ترجع إلى أقدم عصور التاريخ وازداد اتساعها بمضي الزمن. وإذا كانت الأدلة التي وصلت إلينا حتى الآن عن ممتلكات المعابد الإغريقية قليلة، فإنها على كل تشير إلى أنه هذه المعابد لم تفتقر إلى ممتلكات، إذ أن وثيقة بردية من القرن الثاني قبل الميلاد تنبئنا بأن معبد زيوس في أرسينوي بالفيوم كان يملك ضيعة وتحدثنا وثيقة أخرى عن ممتلكات معبد ديمتروكورا ومعبد ديوسكورى في كروكديون بوليس. ولهذه الوثيقة أهمية خاصة، لأننا نستقي منها أن الدولة كانت تدير أراضي المعابد الإغريقية مثل ما كانت تدير أراضي المعابد المصرية. وقد ورد في أحد النصوص ذكر أرض لمعبدي زيوس بجهة الإسكندرية، لكن يظن أنه لم يقصد بذلك أرض زرعية بل حرم هذين المعبدين. ويشك أيضاً فيما إذا كانت ممتلكات معبد ليتو بإقليم باثيريس ملكًا لمعبد إغريقي، ولم تكن ملكًا لمعبد مصري.

الكهنة الإغريق:

ولم يكن الكهنة في بلاد الإغريق يؤلفون هيئة أو هيئات كهنوتية تنقسم إلى طبقات متباينة في المرتبة، مثل ما كانت عليه حال الكهنة المصريين، ومرد ذلك إلى أن إقامة شعائر الطقوس الدينية لم تكن وقفًا على الكهنة، فقد كان يشاركهم فيها على الدوام أفراد من سائر الناس مثل رب الأسرة أو العشيرة والحكام باعتبار ذلك جزءًا رسميًا من مهام مناصبهم. ولا يوجد في مصادرنا ما يمكن الاستدلال منه على أن نظام الكهنة الإغريقي كان يختلف في مصر عنه في بلاد الإغريق. ومن المرجح أن عدم وجود الأدلة على ذلك لا يرجع إلى الصدقة بل إلى الشبه بين نظام الكهنة الإغريق في مصر وفي بلادهم الأصلية، إذ أنه لم يوجد عادة في كل معبد من معابد مصر الإغريقية سوى كاهن واحد. وعلى كل حال فإنه لم توجد في المعابد الإغريقية تلك الأعداد الكبيرة من الكهنة التي تجدها في المعابد المصرية. ويبدو أن مهمة الكاهن الإغريقي كانت عادة رعاية شئون هيكله وإقامة شعائر العبادة فيه.

وإذا كانت الوثائق تتحدث عن كهنة (Hiereis) المعبد الواحد فربما كان سبب ذلك إطلاق هذه الكلمة بوجه عام لا على الكهنة الحقيقيين فحسب، بل أيضاً على الموظفين الذين كان لهم طابع ديني ويساهمون في نشاط الكهنة، وكان لهم نظراء في بلاد الإغريق، نعرف أنهم كانوا يقومون بدور هام في الشئون الدينية. وقد عرفنا عددًا من هؤلاء في مصر، مثل الهيرويويوي (Hieropoioi) في الفيوم و ليكوبوليس وبطوليميس ونقراطيس واالهيروثيتاي (Hierthytai) في الفيوم وفي الإسكندرية، والهيروكريكس (Hierokryx) والتيموخوي (Timouchoi) في نقراطيس. وعلى الرغم من أن معلوماتنا يسيرة عن مهام هؤلاء الموظفين وتنظيمهم وعلاقاتهم بكهنة المعابد، فإننا نعرف عن يقين أن اليهيروبوبوي والهيروثيتاي كانوا يقومون في مصر بتقديم القرابين، وأن الهيروثيتاي كانوا هيئة يعقد المواطنين زواجهم أمامها، وأن التيموخوي والهيروكريكس في نقراطيس كانوا يشتركون في الحفلات الدينية التي تقيمها مدينتهم. أما نصيب الجيمناسيارخوي (Gynnasiarchoi) والأكسجيتي (Exegctai) والكوسميتي (Kosmetai) في الشئون الدينية، فلا يمكننا الجزم به، وإن كان من المحتمل أنهم كانوا يشرفون على الطقوس الدينية في مدنهم.

ويستبعد أوتو وجود رئيس أو كبير للكهنة في كل معبد، بالرغم من أن ورود هذا اللقب (archiereis) في معابد إغريقية في مصر قد يبعث على هذا الرأي. ويبنى هذا العالم رأيه على أن هذا النظام غريب عن الإغريق حتى عهد الإسكندر، وأنه لم يوجد في العصر الهلينيسي إلا في حالات نادرة ولذلك فهو يرى أن لقب كبير الكهنة الذي يجده أحيانًا في مصر لا يدل على أن حامله كان رئيس كهنة آخرين، بل على أنه كان لقبًا رمزيًا فقط، لأنه لم يثبت بصفة قاطعة إلا في حالة واحدة، وهي حالة كبير كهنة معبد ديمتر في أرسينوي، أن اختصاص هذا الكاهن كان يشمل الأراف على المعبد وعلى الكهنة الذين يعملون فيه. ومن ثم يرى أوتو أن ممثلي المذاهب الإغريقية الرسميين في مصر كانوا كنظائرهم في بلادهم الإغريق لا يحملون إلا لقب كاهن، غير أنه من الجائز أنهم كانوا يحملون إلى جانب ذلك أيضًا أحد الألقاب الكهنوتية الإغريقية الخاصة التي كانت مستعملة. وجدير بالذكر أن كبار الكهنة الذين ورد ذكرهم في الوثائق يرجعون إلى عصر الرومان، فيما عدا كبير كهنة أيتوبوليس فهو من العصر البطلمي، لكن يجب ألا يعتبر ذلك دليلاً على تطور نظام الكهنة الإغريق في مصر. حقًا إننا لا نعرف مركز الموظفين الدينيين في كل معبد بالنسبة إلى كاهن المعبد، لكن إذ كانوا يساعدونه في أداء أعماله، ففي هذا دلالة على أنه كان أرفع منهم مقامًا ولذلك إذا كانت الوثائق تحدثنا عن كبار كهنة المعابد، فإنه لا يستبعد أن كاهن كل معبد كان يعتبر رئيس أولئك الموظفين الذين كانوا يعاونه في مهامه. ويبدو أن هذا الرأي لا يبعد عن الحقيقة، فهو لا يتعارض مع رأي أوتو لكنه في الوقت نفسه يفسر ما ورد في الوثائق تفسيرًا أدنى إلى التصديق.

الجمعيات الإغريقية:

وقد تكشف تدهور النظم السياسية في العالم الإغريقي في خلال العصر الهلينيسي، وشعور الناس بالحاجة إلى أن يعيشوا في جماعيات عاملة توفر لهم لونًا من الحياة الدستورية كالمناقشات والانتخابات، عن تأليف جمعيات متعددة في كافة أنحاء العالم الإغريقي. وقد وجد إغريق المهجر في هذه الجمعيات خير ملجأ يلوذون به لسد ما يستشعرونه من نقص في حياتهم العامة. ويرى بوشيه لكلرك أن كل جمعية كانت تقوم حول أحد المذاهب الدينية تتخذ منه ذريعة لوجودها وعقد اجتماعاتها. لكن أوتو يرى أن هذه الجمعيات كانت نوعين: أحدهما ديني بحت والآخر دنيوي، غير أن نشاط هذا النوع الأخير كان يمتد إلى الناحية الدينية أيضاً. وتشير القرائن إلى وجود هذين النوعين في مصر البطلمية، غير أن الأمثلة التي وصلت إلينا من النوع الأول قليلة: إحداها في نقراطيس (Synodos Sambatike)، وثانية لا نعرف مكانها وإن كنا نعرف اسمها (Synodos tes Aphrodites)، وثالثة لا نعرف مكانها وإن كان من المحتمل أنه كان فيلادفيا بالفيوم أما النوع الآخر فله أمثلة متعددة أشهرها جمعية دار العلم بالإسكندرية، التي حظيت بعطف البلاط وتأييده بسبب اعتمادها كلية على الدولة ونزوايا عن حقها في اختيار رئيسها وكاهنها. وإذا كان يفهم من هذا ضمنًا أنه كان لهذه الجمعية رئيس وكان، فإن أوتو يرى أن الكاهن كان في الوقت نفسه رئيس الجمعية، وأن كاهن هذه الجمعية كان في العصر الروماني يشغل دائمًا كذلك منصب أرخيديكاستس (Archidikasts) مصر.

ومن أمثلة الجمعيات الإغريقية في مصر التي كان من بين أغراضها إقامة شعائر مذهب إغريقي معين جمعية فناني دبونيسوس التي ثبت وجودها في بطوليميس على عهد بطلميوس الثالث، وفي الإسكندرية على عهد بطلميوس الخامس، وكذلك جمعيتان أخريان من القرن الثاني قبل الميلاد، لا نعرف مكان إحداهما. وإ، عرفنا أنها كنت جمعية شبان تتجه في عبادتها إلى هرمس. أما لأخرى فكانت جمعية تتألف من عمال أحواض السفن (Egdocbeis) في الإسكندرية، أي أنها كانت بمثابة نقابة لعمال هذه الحرفة. وكانت هذه الجمعية تتجه في عيادتها نحو الآلهة أبولو وأرتميس وليتو. وقد أقام أعضاء هذه الجمعية تمثالين في يدلوس إجلالاً لحاشية بطلميوس بورجتيس الثاني.

وتوجد جمعيات أخرى كان موضع عبادة بعضها ملوك من أسرة البطالمة وكذلك آلهة إغريقية، مثل جمعية قناني دونيسوس والإلهين ادلفوي في بطلميوس، وجمعية الملكيين (Basilistai)،ى أنشأها ضباط حامية أسوان في معبد جزيرة سيتيس (Setis) في القرآن الثاني قبل الميلاد. وقد حفظ لنا نصبان قرارين من قرارتها. أحدهما من عهد بطلميوس فيلومتور، والآخر من عهد بطلميوس بروجتيس الثاني. ولهذين القرارين أهمية خاصة لأنهما يعطيان صورة عما جرى عليه الإريق في عهد البطالمة من تشبيه الآلهة المصرية، فإن القرار الأول يظهر لنا إجلال هذه ا لجمعية للإلهين فيلومتوركس وأبنائهما "وآمون، الذي هو أيضًا خنويس، وهيرا التي هي أيضًا سانيس وهتيا التي هي أيضاً أنوكيس، وديونيس الذي هو أيضاً بتيامنتيس، (Petanpamcntis)". أما القرار الثاني فيظهر إجلال الجمعية للإلهين بورجتيس والآلهة نفسها التي ذكرت آنفًا مع تقديم الأسماء المصرية على مرادافاتها الإغريقية، ويضيف إليها: بتنستيس (Petensetis) الذي هو أيضاً كرونوس (Kronos)، وبنتسنيس الذي هو أيضاً هرمس. وقد بين كاتب الوثيقتين أن آمون ليس آمون رع المصري، بل زيوس آمون الإريقي. وكاتب الوثيقتين رجل إغريقي من برجام يدعى هردوس بن دموفون (Derrophon)، ورقى إلى وظيفة قائد المديرية الجنوبية. ويبدو أن كهنة هذه المنطقة رأوا أن يتزلقوا إليه، فأغدقوا عليه بعض الألقاب الكهنوتية دون أن يتولى، في رأينا، أي منصب كاهن مصري. وكانت توجد في طاوسيرس (Taposiris) جمعية نعرف أنها أقامت في عهد بطلميوس الخامس مذبحًا للآلهة أوزيراس وسيرايس وإيزيس وأنوبيس.