تعبد الإغريق إلى الآلهة المصرية

وجملة القول أن الإغريق كانوا يتابعون أيضاً في جمعياتهم الخاصة عبادة آلهتهم الإغريقية بل إن بعضهم لم يروا غضاضة في عبادة الآلهة المصرية وإظهار إجلالهم لها وليس تعليل عبادة الإغريق للآلهة المصرية أمرًا عسيرًا ، فإن الديانة المصرية تركت في نفوس الإريق أثراً بينًا، بسبب قدم عبدها وغموض أسرارها .
هذا إلى أن الإغريق درجوا على إظهار إجلالهم واحترامهم لآلهة البلاد الأجنبية التي يزورونها كما درجوا على تشبيه آلهتهم بالآلهة المصرية. فمثلاً إلى جانب الآلهة التي مر بنا ذكرها كانوا يشبهون أيضاً أبولو بحورس، وأثينا بثويرس (Thceris) ونايث بهيرا، وديمتر بموت (Mout) وهرمس بتحوت، وهفابستوس بفتاح، وأسكايبيوس بإمحوتب، إلى غير ذلك من التشبيهات وبالرغم من أن هذه التشبيهات لم تقم على أدلة سطحية، فإن الإغريق قبلوها إلى حد أن المدن المصرية الكبيرة، التي كانت تعرف باسم الآلهة الرئيسية المصرية التي تعبد فيها، أصبحت تعرف في عهد البطالمة بأسماء مرادفاتها الإغريقية، مثل ديوسبوليس (Diospolis) وهيراكليوبوليس (Heracleopolis) وأبولونوبوليس (Apollonopolis) ولانونويوليس (Latonodolis) وبانوبوليس (Panopolis).

وينهض هذا دليلاً على أن هذه التشبيهات أصبحت معترفًا بها رسميًا. ويضاف إلى ذلك أن المزج (Synkresis) بين الآلهة لم يكن غريبًا عن آراء الإغريق الدينية. وإزاء كل ذلك لم يجد الإغريق حرجًا في دخول المعابد المصرية وتقديم القرابين للآلهة المصرية، على أساس تشبيهها بآلهتهم الإغريقية، أو على أساس أنهم كانوا نزلاء في تلك البلاد التي تتمتع بحماية هذه الآلهة وأنه كان من سداد الرأي اكتساب عطف هذه الآلهة بإطهار إجلالهم لها. وقد عبد الإغريق بعض الآلهة المصرية تحت أسماء إغريقية، وعبدوا بعضها الآخر بأسمائها المصرية التي لم تكن لها مرادفات بين آلهتهم، لكنها كانت تتمتع لدى أهالي البلاد بمحبة كبيرة استرعت أنظار الإغريق. ومثل ذلك الآلهة بيس (Bes) وتاورت (Taurt)، وسبك (Sebek) الذي حور الإغريق اسمه تحويرًا طفيفًا، فأصبح يعرف باسم سوخوس.

ويحدثنا نقش من عهد بطلميوس الثالث بأن أيربني وثيوكسانا [ابنتي دمتريوس القوربني من روجته ثاسيس (Thasis)، وكانتا تدعيان كذلك نفرسوخوس (Nephersouchos) وثاوس (Thaues)] أهديتا معبدًا وحرمًا مقدسًا للإله ثوبريس (Thoeris) ويدل هذا النقش على أنه عندما تزوج د القوربني من سيدة مصرية أنجب منها ابنتين أعطاهما اسمين إغريقيين وآخرين مصريين، على أن التزاوج بين إغريقي ومصرية ساعد على تغلغل المعتقدات المصرية في أسرته.

وثرينا نقوش من أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الأول أن إغريقياً بشغلون مناصب رفيعة ويتمتعون بمكانة اجتماعية كبيرة كانوا يتعبدون إلى آلهة مصرية مثل حاربابثوس وبواسطيس. وذهب ضابط إغريقي من الإسكندرية إلى حد تشييد بعض الإضافات في معبد بنفروس في فيلادلفيا. وكان القواديتنافسون فيما يقدمو به من الهبات إلى المعابد المصرية. ويحدثنا نقشان من الفيوم، أحدهما من عام 98 ق.م. والآخر من عام 95 ق.م. عن قيام شابين من الإغريق (Ephebes) بإهداء قطعة أرض مقدسة إلى "الإله سوخوس العظيم جدًا".

ونحن نستطيع أن نتصور أنه كلما أصبح الإغريق أكثر ألفة بآلهة المصريين نتيجة لاختلاطهم بأهالي البلاد أو تزواجهم معهم أو طول استقرارهم بينهم كثر تقربهم إلى هذه الآلهة بالعبادة أو تقديم القرابين ومختلف أنواع الإهداءات، إذ أن الأدلة التي وصلتنا على ذلك تزداد كلما تقدم عصر البطالمة. وهل معنى ذلك أن الإغريق انصرفوا بالتدريج عن عبادة آلهتهم القديمة؟

استمساك الإغريق بعبادة ألهتهم:

إن النقوش ترينا انتشار الجيمنازيا والبلايسترا الإغريقية في مختلف أنحاء مصر واحتفاظ هذه المنتديات بآلهتها الإغريقية مثل ما كانت عليه الحال في بلاد الإغريق، فقد كانت توجه إهداءاتها إلى هرمس وهرقل، الإلهين التقليدين للبلايستر. وقد عثر على مجموعة من الأختام التي كان الإغريق يستخدمونها، وإذا كان طابع بعض هذه الأختام مصريًا فإن طابع أكثرها إغريقي يمثل رأس أبولو أو أثينا أو دبونيوس.

وتحدثنا النقوش عن الإهداءات التي كان كبار الموظفين الإغريق في خدمة بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني يقدمونها لآلهتهم القديمة بان وزيوس وأبولو.

إزاء هذه الأدلة وإزاء ما نعرفه من أن أكثر الإغريق كانوا ينزلون في المدن الإغريقية أو يعيشون في جاليات قومية حيث تتوافر كل الأسباب التي تيسر لهم متابعة عبادة آلهتهم، يبدو لنا أن الإغريق إذا كانوا في بعض الأحيان يعبدون الآلهة المصرية فإنهم بوجه عام لم ينقطعوا عن عبادة آلهتهم حتى خارج المدن الإغريقية.

ويسلم "السير هارولد إدريس بل" بأن الإغريق الذين استقروا في مصر أحضروا معهم آلهتهم ومذاهبهم الدينية ثم يمضي فيقول أنه كان يسود القدماء اعتقاد بأن قدرة الآلهة كانت أكثر مفعولاً في البلاد التي وهبت لها، وإن الإغريق درجوا على إظهار إجلالهم واحترامهم لآلهة البلاد الأجنبية التي يزورونها، ولذلك كان طبيعيًا أن يتجه إغريق المجر إلى الألهة الوطنية المحيطة بهم.

ونحن نرى أن هذا لا يستتبع حتمًا إغراض الإغريق عن آلهتهم ومذاهبهم، وإلا فلماذا أحضروا هذه الآلهة والمذاهب، وأقاموا لها المعابد والهياكل، وبنوا المذابح حتى خارج بيوتهم وأنشأوا الجمعيات حول مذهب أحد هذه الآلهة، واحتفظوا بهرمس وهرقل الإلهين التقليديين للبلايسترا، واتخذوا من رءوس الآلهة الإغريقية طابعًا لأختامهم واستمروا يحتفلون بأعياد هذه الآلهة؟

ويبدو أن السير هارولد يتفق معنا في الرأي فهو يقول إن الإغريق احتفظوا بالمذاهب الإغريقية لا في الإسكندرية فقط بل أيضاً في مصر عامة، وإن أكثر آلهة الإغريق حيوية لم يكن زيوس أو غيره من آلهة أوليمبوس وإنما الآلهة الصغرى أو الآلهة ذات الأسرار، وإن الإلهين التوأمين (Dioscuri) كانا يتمتعان بمحبة كبيرة منذ منتصف القرن الثالث، وإن ديمتر أيضاً احتفظت بقدر من حيويتها، وإن ديونيسوس استبقى مكانته وساعده على ذلك رغم البطالمة أنهم ينحدرون منه.

لكن السير هارولد يذكر في موضع آخر أن الإغريق الذين استقروا في مصر خارج المدن الإغريقية كانوا يعيشون فرادى منعزلين وسط جموع المصريين، ومن ثم وجدوا أنفسهم بعيدين عن هياكلهم، فكان طبيعيًا أن يترتب على ذلك اعتناقهم للديانة المصرية. ونحن نستبعد إقدام أجنبي على الاستقرار بمفرده وسط بيئة غربية عنه تتألف من الوطنيين، ولا سيما أن الشواهد تدل على أن الإغريق كانوا ينزلون عادة جماعات. وبذكر السير هارولد في موضع آخر أن النزلاء العسكريين كانوا ينتظمون في جماعات قومية. ولابد من أن ذلك كان أيضاً حال المدنيين، وفي هذه الجماعات القومية كان الإغريق يستطيعون متابعة حياتهم وإقامة شعائر ديانتهم على نحو ما أسلفنا.

وإذا سلمنا جدلاً بأن بعض الإغريق كانوا يعيشون منعزلين وسط المصريين، فلابد من أنهم كانوا أقلة لا يعتد بها. وعلى كل حال لا نستبعد أن يكون بعض الإغريق قد اعتنقوا الديانة المصرية وانصرفوا عن دياناتهم الأصلية بينما استمسكت غالبيتهم الكبرى بعبادتهم.

ويجدر بنا أن نذكر أنه إذا كانت الديانة المصرية قد قهرت الإغريق فأظهروا إجلالهم لها وقدموا لآلهتها، فإننا لم نجد دليلاً واحدًا على أن شخصاً مصريًا قدم قربانًا لإله الإغريق.