جعل الله سبحانه وتعالى بحكمته الدنيا الغرارة العاجلة، الدنية الفانية دار ابتلاء وامتحان ليتميز بها من عباده الأحسن عملاً، والأكثر خيراً، والأرفع درجة ومنزلاً، والأفضل طاعة ونسكاً.
قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فاطر: 32.
وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك: 2.
قال ابن كثير رحمه الله: (ليبلوكم أي: يختبركم أيكم أحسن عملاً، ولم يقل أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عز وجل على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهي دار ابتلاء وفتنة بالمنحة والمحنة. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الأنبياء: 35.
وقال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: (أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، فننظر: من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط؛ كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ونبلوكم أي نبتليكم: بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال).
ومن أسباب الفتنة عداوة الشيطان، ووسوسته للإنسان، وهي عداوة بينة ظاهرة، قديمة مستمرة، حذر الله منها، وأمر بالتوقي من شرها، وأوجب معاداته بصدق الإيمان، ومخالفته بطاعة الرحمن.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فاطر: 5-6.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله، وتصديق كلماته؛ فإنه غرارٌ كذاب أفاك).
قال مطرف بن عبد الله الشخير: (وجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين، ووجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة).
وهذه العداوة الإبليسية أبدية حسدية خطيرة لا ينتهي عداؤها إلا بمضي الأعمار، وقيام الأشهاد، أو بفساد الأعمال وموافقة الشيطان، وحسدية لا تنفك عُقدها بمصانعة بمال يدفع، أو مصيبة ببدن تقع، أو بفترة عن الاجتهاد في العمل الصالح تعرض، أو بمرحلة من العمر تمر وتنقضي بل وسوسة وحسد أبدي حتى عند الموت وسكراته، وفي خلوات المرء وجلواته، وفي يقظته ونومه وغفلاته، والله وحده هو المستعان عليه، وبالله تعالى وحده المعتصم، وإليه سبحانه الملجأ والمستعاذ.
وهي عداوة أعاذنا الله منها خطيرة متنوعة السلاح، قوية الفتك، شديدة الأثر، متعددة الأساليب، مختلفة الوسائل.
قال تعالى واصفاً حال عداوته: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} الأعراف: 16-17.
وقال تعالى في التحذير من الشيطان بعد طرده ولعنه وأنه عدوٌ مضل مبين، وأنه يورد موارد الردى ويضل عن طريق الهدى، وعن نور الحق إلى ظلام الكفر والبدعة والمعصية بالأماني الغرورة، والوعود المكذوبة والأوامر المخالفة للفطر.
يقول سبحانه وتعالى: {إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلاَّ إنَاثًا وَإن يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا* لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا* يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُورًا} النساء: 117-120.
وقد حذر الله عباده من عداوة الشيطان والركون إلى إغوائه وإضلاله، والبُعد عن إتباع خُطواته؛ فإن عاقبتها الفاحشة والمنكر، ومآلها الخسران المبين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} النور: 21.
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا تنفير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها، وخطوات الشيطان طرائقه ومسالكه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عمله، وقال عكرمة: نزغاته، وقال قتادة: كل معصية فهي من خُطوات الشيطان).
وخُطوات الشيطان هي خطى متلاحقة، ودركات متتابعة، وصور متنوعة: إفراطٌ وتفريط، وشهوات وشبهات، وسخرية واستهزاء، ومعصية لله ومعاداة للرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذٌ لكتاب الله، وتحكيم للهوى.
والشيطان يجمل الفعل القبيح، ويزين الأمر المشين، ويحسن عمل السوء، ويغوي ويغري بالمال والمنصب والجاه ومتعة الحياة، ويجري من ابن آدم مجرى الدم، ويفتح باب الأمل والتسويف، ويستدرج بالحيلة والكذب. قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأنعام: 43 ، وقال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} فاطر: 8 ، وقال تعالى: {وَإنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} الزخرف: 37.
فالشيطان وجنده وجميع حزبه لا يأمرون إلا بالشر ولا ينهون إلا عن الخير، يأمرون بالكفر لا بالإيمان وبالشرك لا بالتوحيد، وبالبدعة لا بالسنة، وبالمعصية لا بالطاعة، وبالمنكر لا بالمعروف، وبالتفرق لا بالاجتماع، ويأمرون بتغيير خلق الله لا باتباع شرائع الإسلام وسنن الفطرة.
قال ابن كثير رحمه الله في التحذير من عداوة الشيطان وكيده لبني آدم: (إن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل).
ومن عداوة الشيطان الشديدة أنه قعد لابن آدم في كل طريق خير يخذِّل عنه، وقعد له في كل طريق شر يدعو إليه ويحثه عليه.
وفي الحديث: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تُسلم وتذر دينك ودين آبائك؟! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَل؟! فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؛ فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال. فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقع من على دابته كان على الله أن يدخله الجنة).
ولما كان هذا العدو بهذه القوة والشراسة فيحتاج العبد الضعيف إلى ركن شديد وسلاح واق، وحماية صلبة، وقوة ضاربة؛ ترد العدو على عقبه خاسئاً حسيراً، وتصده عن مقاصده مدحوراً، ولا أشد منعة، وأقوى حماية، وأعظم تحصيناً يجده العبد من الإيمان بالله عز وجل، والاعتصام بكتابه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واتخاذ منهاج السلف الصالح منهاجاً، وطريق أهل السنة والجماعة طريقاً، معرضاً عن مقالات أهل الأهواء والمبتدعين، وشبهات المضلين، وأقوال الجاهلين من الذين يجادلون في آيات الله عز وجل بغير علم، ويخوضون في آيات الله بغير حجة ولا برهان.
وهذا الإيمان والتوحيد بأصوله الاعتقادية والقولية والعملية هو النجاة يوم القيامة، والفلاح في الدنيا والآخرة.
ويزكي المرء نفسه، ويزيد إيمانه، ويقوي يقينه، ويطرد شيطانه بكثرة الإخبات والطاعة، والتزلف بالعبادة بأداء الواجبات، وترك المنهيات، والتقرب إلى الله بالنوافل والمندوبات.