خلاصة القول أن الأصالة والمعاصرة طرفان لا بد أن يندمجا في كيان عضوي واحد، وعندئذ تكون المعايير التي نتوصل إليها في ضوء هذا الكيان معايير لها جذورها وحضورها المستمر وجدواها، ودوام صلاحيتها لا تبلي ولا تتخلف.
ولكي لا يكون الأمر منطقاً بلا دليل فإنا نتناول الآن ما يكشف عن أن الاتجاه نحو معايير الجودة في التدريس واستخدام هذا المصطلح في الوقت الراهن له جذوره في الثقافة الإسلامية تؤكده وتدعو إليه وتدعمه حتى قبل أن يطرح هذا المصطلح باعتباره مصطلحاً عصرياً، بمعنى أننا سنستدل على أنه لا تعارض بين الأصالة والمعاصرة إذ أنهما يتفاعلان ويلتقيان ليؤكدا أن معايير الجودة الأصيلة والمعاصرة في التدريس هي معايير واحدة يسعى العمل لاستغراقها، ويحقق أهدافه في ضوئها.
نقول تذخر الثقافة الإسلامية بدلالات عديدة لمفهوم الجودة في التدريس تجعله أصيلاً وتدعم معاصرته حيث عرض عبد الرحمن النقيب( ) مجموعة من المفاهيم الإسلامية في هذا السياق نعرض لها بإيجاز وبتصرف يناسب السياق فيما يلي:
(1) مفهوم الإحسان: وهو في أحد معانيه أداء الواجب على أحسن صورة ممكنة لقول الرسول : "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يحسنه"، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحض على ذلك، أي أن هذا المفهوم يعني إحسان العمل أي تجويده، ومن ثم فالإحسان في التدريس هو إجادته ومن ثم جودته.
(2) مفهوم الإتقان: أي أداء العمل بشكل دقيق وصحيح وسليم لا يشوبه أي قصور أو نقص، وهذا المعني استجابة لحديث الرسول بمنطوق آخر: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، وهو أيضاً مفهوم يشتق من التقوى (فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن 16)، ولا جدال في أن الإتقان جودة وتجويد، لذا فالجودة مفهوم أصيل ومعاصر، ومعايير إتقان التدريس هي معايير جودته.
(3) مفهوم الإصلاح: وهو نقيض الإفساد، أي إتيان الإصلاح والابتعاد عن الإفساد، والابتعاد عن الإفساد هو إتمام للعمل وصلاحه، وهو مفهوم مشتق أيضاً من الإيمان "إنا لا نضيع أجر المصلحين" (الأعراف 170)، والمسلم الحق لا يستهدف إلا الإصلاح "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" (هود 88)، والإصلاح يعني التميز والاكتمال، ومعايير جودة التدريس لا تعني أكثر من أن يكون متميزاً مكتملاً.
(4) مفهوم الشورى: والشورى تعني الإفادة من رأي الآخرين للوصول بالعمل إلى أفضل صورة، فرؤية العمل في أفضل صورة هو نتاج لعمل جماعي تشاوري أخذ فيه بأفضل ما لدي الجماعة لأنه أفضل مما لدي فرد واحد. والشورى من أهم مبادئ الإسلام ومفاهيمه حيث أمرنا به في قوله تعالي: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران 159) وأفضل صورة للعمل تعني جودته واستيفاءه للمعايير المتفق عليها، من هنا فمعايير جودة التدريس لا بد أن تكون تلك التي يتفق عليها خبراء الميدان من خلال استنادها إلى الأسس العلمية للتدريس.
(5) مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف هو كل فعل أو قول أو قصد حسن شرعاً – وضده المنكر وهو كل فعل أو قول أو قصد قبيح شرعاً، معني هذا الدعوة إلى الخير والحث على عمل كل ما هو أفضل للإنسان، والعمل الخير وتحقيق الأفضل للإنسان عمل لابد أن يتصف – بالضرورة – بالجودة وحسن العطاء، ولهذا خاطبنا المولي عز وجل بقوله "كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران 110). إذن تحقيق الخيـر والفضـل في التدريس لا يعنـي سوى الإتقـان والجودة.
(6) مفهوم الإخلاص في العمل: وهو مفهوم يؤكد أن إتمام العمل أمر لا بد أن يخلص فيه الإنسان ويعطيه جل اهتمامه، ويسعى إلى تصويبه واعتداله حتى يقبله الله منه ولا يحاسبه على التقصير فيه وعدم الإخلاص، فكأنه يوجهنا إلى إعطاء العمل كل ما لدينا من جهد أياً ما كانت متطلباته من الإنسان جهداً وتعباً حتى يقبله الله، لأن الله لا يقبل إلا الطيب من الأعمال أي الجيد من الأعمال، وبهذا المعني تصبح معايير الجودة في التدريس دواعي تدعونا لتحقيقها امتثالاً للإخلاص في العمل، ذلك أنه لكي يصبح التدريس على صواب واعتدال لا بد من معايير لجودته لأن ما هو على صواب فهو جيد خال من النقص والقصور.
(7) مفهوم العمل: ينظر الإسلام إلى العمل على أنه المقياس العادل لتحديد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة، والميزان الذي توزن به أقدار المسلم من حيث ما قدم من عمل يؤدي به واجبه نحو الله ونحو الناس، ولذلك حثنا الإسلام على العمل، وفي ضوء تعاليمه يكون عملاً حسناً صالحاً متقنا يجلب الخير، ويتبدى ذلك في قول الرسول : "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" ونتاجها سوف لا يكون إلا ظلاً وارفا وتمراً ينتفع به الناس، وذلك حض على العمل للإنتاج المفيد، وهذا العمل المنتج المفيد لا بد أن يكون عملاً مستوفياً للجودة، وهذا يعني في سياقنا أن معايير جودة التدريس تدفعنا إلى جعل التدريس عملاً مثمراً لتعلم حقيقي وفعال.
(
مفهوم العلم: يدفعنا الإسلام لطلب العلم والسعي لتحصيله والعمل به، وأن لهذا الطلب والسعي منزلة عالية عند الله سبحانه وتعالي حيث يقول في محكم كتابه "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة 11) ويقول الرسول : "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" وهنا نتساءل ما العلم؟ ونقول: إن العلم هو المعرفة المنسقة المنظمة المنضبطة التي تنشأ عن الملاحظة والدراسة والتجريب وهي معرفة تحكمها قوانين عامة، معني هذا أن العمل أو الأمر الذي يقوم على النظام والانضباط وتحكمه قوانين عامة هو عمل يستوفي شروط الجودة، وما معايير الجودة في التدريس إلا قوانين عامة لها نسقها ونظامها مستندة إلى خبرة ودراسة وتجريب، ومن هنا فالأخذ بالعلم أمر أصيل بهذا المنظور معاصر في أي حال من الأحوال.